الايمان بالقضاء والقدر
صفحة 1 من اصل 1
الايمان بالقضاء والقدر
لإيمان بالقضاء والقدر
قام فرعون من نومه فزعًا؛ لأنه قد رأى في منامه ذهاب ملكه على يد مولود يولد من بني إسرائيل، وفي نفس اللحظة، أصدر فرعون أوامره بقتل كل مولود ذكر. علمت أم موسى بالخبر، فضمت ابنها (موسى) بين أحضانها، ودموعها تنساب على خديها، ماذا تفعل والموت يحيط بوليدها؟ لكن الله -عز وجل- قد تكفل برعايته، فأوحى إليها أن تضعه في صندوق وتلقيه في ماء النيل، وأوحى إلى الماء أن يحمل موسى إلى قصر فرعون. وعندما رآه جنود فرعون أخذوه، فألقى الله محبته في قلب امرأة فرعون، فصاحت في الجنود: لا تقتلوه. ونفذ قضاء الله وقدره، وكان بيت فرعون هو النجاة لموسى من خطر فرعون، قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يـس: 82].
الإيمان بالقدر:
الناس في الخلق متفاوتون، هذا طويل، وهذا قصير، وهذا جميل، وهذا قبيح، وهذا قدر الله -عز وجل- في خلقه. والمسلم يؤمن بقضاء الله وقدره، فلا يحتقر نعمة أنعم الله بها عليه، ولا يتمنى ما عند الآخرين، بل يكون راضيًا بقضاء الله وقدره، لأن هذا ركن من أركان إسلامه الذي لا يتحقق إلا به.
قال رسول الله (: (حاج (جادل) موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال: قال آدم: يا موسى، أنت اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله على قبل أن يخلقني، أو قدَّره على قبل أن يخلقني؟) قال رسول الله (: (فحج آدم موسى) [البخاري].
والمسلم يعلم أن القدر حق، والإيمان به واجب، بل هو ركن مهم من أركان العقيدة، ولا يكتمل إيمان المرء إلا به، فقد جاء في جواب الرسول ( على جبريل حينما سأله عن الإيمان: (... وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره) [متفق عليه].
والمسلم يؤمن أن القدر هو ما قدره الله -عز وجل-، فالله -عز وجل- خلق الناس وهو يعلم ما يعملون، قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96]، والله -سبحانه- بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده ملكوت السموات والأرض. قال تعالى: {إن الأمر كله لله}
[آل عمران: 154]، وقال سبحانه: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 132].
والمسلم يعلم أن الإيمان بالقدر يربطه برب هذا الوجود وخالقه ومقدر أمره، فهذا الوجود يسير وفق حكمة عليا وإرادة مختارة، مما يعطي المسلم قوة باعثة على النشاط والعمل الإيجابي والتعامل مع هذا الكون بنفس راضية مطمئنة.
قال تعالى: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر: 19-21].
والمسلم يعلم أن إيمانه بقدر الله -تعالى- مستمد من إيمانه بصفات الله العلى، وأسمائه الحسنى، ومنها: العلم، والقدرة، والإرادة، فهو سبحانه: {بكل شيء عليم} [الحديد: 3] {وهو على كل شيء قدير} [الحديد: 2]، وهو سبحانه: {فعال لما يريد} [البروج: 16].
والمسلم يؤمن بقضاء الله -عز وجل-، وأنه إرادة الله -عز وجل- قضاها في الأزل (في القِدم)، بمعنى أن كل شيء يحدث الآن، إنما يقع ويحدث وفق إرادة الله -عز وجل- وقدره. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد: 22].
وقال: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [التوبة: 51].
والمسلم يؤمن أن وقوع الإرادة أو قضاء الله -عز وجل- وتحققها بالهيئة التي قضاها الله، هو قدر الله -عز وجل-، ونضرب على ذلك مثلا: الله سبحانه قضى أن البذرة إذا كانت صالحة، ووضعت في الأرض، ورويت بالماء، تنبت بإذن الله، فإذا وضعت في الأرض، ورويت بالماء، وأنبتت، فهذا قدر
الله -عز وجل- وكذلك قضى الله -عز وجل- أن النار تحرق ما يقع فيها، فهذا قضاء من الله -تعالى-، فإذا وقع فيها شيء واحترق، فهو قدر.
مراتب القدر:
والمسلم يؤمن أن للقدر مراتب هي:
* المرتبة الأولى:
مرتبة العلم والإرادة، فالمسلم يعلم أن الله بكل شيء عليم، فعلمه سبحانه أحاط بكل شيء، كل ما كان في الماضي، وكائن في الحاضر، أو ما سيكون في المستقبل، فعلم جميع أحوال العباد من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، يقول الله تعالى: {والله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12].
* المرتبة الثانية:
والمسلم يؤمن أن ما أراده الله وقدره وعلمه أزلا قد كتبه في اللوح المحفوظ؛ أي أن الله -عز وجل- علم ما يعمله العباد، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، قال تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} [الحج: 70]، والرسول ( يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) [مسلم والترمذي].
*المرتبة الثالثة:
هي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، فإذا قضى الله -عز وجل- اليسر لعبده، يسر له ذلك، قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى}
[الليل: 5-10].
فالمسلم يؤمن بمشيئة الله -عز وجل-، وكذا بمشيئة العبد، إلا أن مشيئة العبد مرتبطة بمشيئة الله، فالله -عز وجل- خلق العباد وأفعالهم، والعباد فاعلون حقيقة، ولهم القدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96].
والمسلم يعلم أن الله علم أعمال العباد بعلمه الأزلي، ثم كتب ذلك في كتاب عنده وهو اللوح المحفوظ لما شاء الله وأراد، ثم وقعت هذه الأفعال وفق قضاء الله وقدرته وخلقه وعلمه بهذه الأفعال.
حكمة القدر:
والمسلم لا يسأل عن الحكمة من القضاء والقدر، لأن ذلك من الأمور التي اختص الله بها نفسه، فهو سبحانه مالك هذا الكون وخالقه والمتصرف فيه، وله الحق -سبحانه- أن يفعل فيه ما يشاء، ولا يسأل سبحانه عن ذلك، قال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23].
والمسلم لا يعترض على قضاء الله وقدره، إن كان فقيرًا أو ضعيفًا؛ لأنه يعلم أن الفقر والغني والقوة والضعف إنما هي من قضاء الله، يختص الله بها من يشاء من عباده، والمسلم يعلم أن إيمانه بالقدر يجعله ينطلق في الأرض؛ ليتعرف على سنن الله وقوانينه، ويعمل على تعمير الأرض وبنائها، فيكون إيمانه بالقدر باعثًا له على النشاط والعمل، فإن كان النجاح فهو بقدر الله -عز وجل-، وإن فشل لا يجزع، بل يصبر ويعلم أنه قدر الله، قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 22-23].
والمسلم يعلم أن ما قدر له يكون، وما لم يقدر له لا يكون أبدًا، قال رسول الله (: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) [مسلم].
والمسلم يؤمن أن ما يحدث له يقع بالكيفية التي قدرها الله -عز وجل-، فأمره سبحانه بين الكاف والنون. قال تعالى: {إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47].
لذلك يوصي الرسول ( ابن عباس -رضي الله عنهما- فيقول: (.. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [الترمذي].
إرادة الله وإرادة البشر:
والمسلم يؤمن أن الله -عز وجل- قدَّر أمورًا كثيرة تحدث للخلق حسب إرادة الله ومشيئته، وأنها تحدث لهم طوعًا أو كرهًا، رضوا بها أم لم يرضوا، كمولد الإنسان، وساعة وفاته، وجنسه، وذكائه وطوله وقصره، وجماله وقبحه، وأبيه وأمه...، فهذه الأشياء لا دخل للإنسان في تقديرها، ولكنه يرضى بما اختاره الله سبحانه له، فقال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} [القصص: 68].
وكذلك المؤمن يصبر على قضاء الله وقدره، إن كان في مصيبة كالموت أو المرض؛ لأنه يعلم أن ذلك تخفيف عنه يوم القيامة وتطهير له من السيئات. قال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} [يونس: 107].
وكذا يؤمن بما يحدث في الكون من حوله، وأنه لا دخل لإرادة الإنسان فيه، فتكوين السحاب، ونزول المطر، وحدوث البرق والرعد... إلخ، هذا قدر لا دخل للإنسان فيه، فهذا النوع من القدر يجب على المسلم الإيمان والرضا به، لأنه يقع وفق إرادة الله ومشيئته. وهذا إبراهيم- عليه السلام- يؤمن بمشيئة الله الكونية، وكيف لا يؤمن بها وهو إمام الموحدين؟! فيلقي حجته قاطعة مبرهنة على صدقه أمام الملك الذي أنكر وجود الله، فقال إبراهيم: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} [البقرة: 258].
علم إبراهيم أنها إرادة الله وحده، وهذا الكافر ينكر وجود الله، فأمره
إبراهيم -عليه السلام- أن يأتي بالشمس من المغرب فماذا حدث؟ قال تعالى: {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
والمسلم يؤمن أن كل إنسان له إرادة، يفعل بها ما يشاء، ويترك ما يشاء، كالقيام والجلوس والكلام والأكل والشرب والحركة... ونحوها، فكل هذه الأعمال من المشيئة التي جعلها الله في الإنسان، وإن كانت تابعة لمشيئة الله -عز وجل-، لأن الله خالق الإنسان وخالق مشيئته وقدرته. قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 29].
المسلم يعلم أنه لا يفهم من ذلك أن الله أجبر العباد على أفعالهم، ثم يحاسبهم عليها بعد ذلك؛ لأن هذا لا يستقيم مع ما يؤمن المسلم به من عدل
الله -سبحانه وتعالى-، الذي لا يظلم الناس شيئًا، فمن المعروف أن
الله -عز وجل- خلق طريقين، طريق الهداية وطريق الضلالة، وشاء -سبحانه- أن يختار الإنسان أحد الطريقين، بعد أن بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر، قال تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وأمر الناس أن يسيروا في الطريق المستقيم، ووعدهم الثواب العظيم إن ساروا على نهج الله، وحذرهم من الكفر والضلال، وأوعدهم بالعقاب الشديد على ذلك.
والله -سبحانه- يحب لعباده أن يسلكوا سبيل الخير والإيمان، ولا يرضى لعباده الغواية والضلال، قال تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7].
والمسلم يعلم أن الله قد بين للإنسان طريق الهدى، وأرسل له الرسل، وأنزل معهم الكتب ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله -عز وجل- وطاعته، ويحذرهم من الانحراف عن طريق الله المستقيم، قال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. وقال سبحانه: {إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا} [الإنسان: 3].
ويحكي القرآن ما كان من قوم ثمود الذين استحبوا طريق الضلال على طريق الله المستقيم، فيقول: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}
[فصلت: 17]. فقد بين الله لهم الطريق المستقيم، ولكنهم لم يسلكوه واتبعوا الشيطان.
والمسلم يؤمن بأن الله -عز وجل- قدَّر الأرزاق والآجال أزلا، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. قال الله تعالى:{وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} [الذاريات: 22-23].
وقال (: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها)
[الحاكم وابن أبي الدنيا]. والمسلم يطمئن قلبه عندما يعلم ذلك، ويقول كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي.
والمسلم لا يتواكل (يتكاسل وينتظر الرزق)، لكنه يأخذ بالأسباب التي تأتي بالرزق، فهذا من قدر الله -عز وجل- ولو أنه أخذ بالأسباب وتوكل على الله، لرزقه الله رزقًا كثيرًا، قال (: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا) [الترمذي].
والمسلم يؤمن أن أجله ونهاية عمره بيد الله -عز وجل-، لا يستطيع أحد أن يؤخر أو يقدم في ذلك شيئًا، وأنه لن تموت نفس قبل أن تستوفي أجلها، يقول الله -تعالى-: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلاً}
[آل عمران: 145].
وقالت السيدة أم حبيبة زوج رسول الله (: (اللهم أمتعني بزوجي رسول الله (، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. (تقصد أن يطيل الله عمرها وأعمارهم حتى يتمتع كل بالآخر)، فقال رسول الله (: (قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حِلِّه، أو يؤخر شيئًا عن حِلِّه، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرًا وأفضل) [مسلم].
ترك التنازع في القدر:
والمسلم يؤمن أن القدر سر من أسرار الله -عز وجل-، فهو يؤمن بما ينجيه عند ملاقاة الله -عز وجل-، فهو يؤمن بأن الله عليم بكل شيء، منزه عن الظلم، فهو سبحانه عادل لا يظلم الناس شيئًا، وهو سبحانه منزه عن العبث، له حكمة في كل ما يفعل، وإن خفيت علينا هذه الحكمة، لذا فهو يؤمن بترك التنازع في القدر، بل يسلم بكل ما قدر له، ويتمثل حديث رسول الله (: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) [الطبراني].
ولقد حذرنا الرسول ( من التنازع والخوض في القدر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: خرج علينا رسول الله ( ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: (أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؟ عزمت عليكم أن لا تتنازعوا فيه) [الترمذي].
وفي رواية، فقال لهم: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم) [أحمد].
فالمسلم يترك التنازع في القدر، ويعلم أن كل شيء يحدث له إنما هو مقدر ومحسوب عند الله -تعالى-، كما قال (: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) [ابن ماجه].
المسلم لا يحتج بالقدر على فعل معصية، فقد أُتي بسارق إلى أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فسأله عمر: لم سرقت؟ فقال: قدر الله ذلك. فقال عمر -رضي الله عنه-: اضربوه ثلاثين سوطًا، ثم اقطعوا يده) فقيل له: ولِمَ؟ فقال: يقطع لسرقته، ويضرب لكذبه على الله.
فنجد أن هذا الرجل احتج بالقدر على معصية الله، فأمر أمير المؤمنين
عمر -رضي الله عنه- بجلده ثلاثين جلدة، بالإضافة إلى قطع يده تعذيرًا له، لأنه كذب على الله، فعلى الإنسان أن يؤمن أن كل شيء يحدث له أو منه إنما هو معلوم لله، ومسجل في كتاب القدر، ولابد أن يقع كما علمه الله تعالى وسجله في كتاب القدر من قبل، لكن الله لم يطلع الناس على كتاب القدر.
لذلك على الإنسان أن يتخذ قراراته بإرادة كاملة ومشيئة تامة بأن يفعل أو لا يفعل، وهو مسئول عن ذلك مسئولية كاملة، ولا يصح له أن يحتج بالقدر وإن احتج به يكون كاذبًا؛ لأنه حين اتخذ قراره بأن يفعل كذا أو أن يمتنع عن فعل كذا، لم يكن يعرف شيئًا عن قدر الله؛ لأنه لم يطلع على كتاب القدر، ومن هنا لا يصح لأحد أن يحتج بالقدر، والذي يحتج به يكون كاذبًا، ويستحق الجلد الذي أمر به عمر -رضي الله عنه-.
والمسلم لا يسلك ذلك المسلك ولا يحتج بالقدر على معصية الله؛ لأنه يعلم أن ذلك هو مسلك الكافرين في تبرير شركهم بالله، قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} [الأنعام: 148]. وقال: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} [الزخرف: 20].
دفع القدر بالقدر:
انتشر الطاعون في أرض الشام، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيها، فأراد أن يرجع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، أفر من قدر الله إلى قدر الله. فالطاعون مرض، والمرض قدر من أقدار الله -عز وجل-، فالفرار منه إلى الأرض الصحيحة التي ليس بها مرض هو فرار إلى قدر الله أيضًا، ثم يضرب عمر بن الخطاب لأبي عبيدة -رضي الله عنهما- مثلا بالأرض الخصبة، وأنه إذا كان يرعى في أرض جدباء لا كلأ فيها ولا خضرة، ثم انتقل إلى أرض خصبة مليئة بالعشب، فإنه ينتقل من قدر إلى قدر.
والمسلم يؤمن أن القدر يدفع بالقدر، فالمرض قدر من أقدار الله -عز وجل- لا يدفعه إلا قدر التداوي، ولما سئل النبي (: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال (: (هي من قدر الله) [ابن ماجه وأحمد].
والرسول ( يقول أيضًا: (تداووا عباد الله، فإن الله -تعالى- لم يضع داءً إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم (الشيخوخة)) [أحمد].
فإذا قعد الإنسان عن مدافعة الأقدار، مع القدرة على ذلك كان آثمًا، فإذا لم يدفع قدر الجوع مثلا بقدر الأكل، هلك ومات عاصيا لله.
إنما الأعمال بالخواتيم:
والمسلم يؤمن أن الأعمال بخواتيمها، فإن كان آخر عمل الإنسان خيرًا فإن هذا يبشر بالخير والثواب، ومن كان آخر عمله شرًا أخذ به، قال (: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه القول، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) [البخاري].
فالمسلم عليه أن يسارع إلى الخيرات، لأن الأجل غير معلوم، وهو يبذل ما في وسعه، ويترك النتائج على الله -عز وجل-، والله -عز وجل- لا يكلف الإنسان إلا بما يقدر عليه، ولا يجبره على فعل ما لا يستطيع.
والمسلم يعلم أن من لطف الله ورحمته بعباده، أنهم لو أساءوا طوال حياتهم، ثم تابوا إلى الله -عز وجل-، وعملوا بعمل أهل الجنة، فإنهم يعاملون بذلك، فعلى المسلم أن يستعين بالله على فعل الخير، وأن يدعو الله -عز وجل- أن يحسن خاتمته، فإن القدر لا يرده إلا الدعاء، قال (: (لا يرد القدر إلا الدعاء) [الترمذي والحاكم].
القدر والتواكل:
والمسلم لا يتخذ القدر حجة للتواكل، ومبررًا للمعاصي، وطريقًا إلى القول بالجبر، ولكنه يتخذ القدر سبيلا إلى تحقيق الأهداف السامية والغايات النبيلة، فينطلق إلى البناء والتعمير، واستخراج كنوز الأرض، والانتفاع بخيراتها التي أودعها الله في جوفها، وبذلك يربطه الإيمان بالقدر برب هذا الوجود وخالقه، وعلى المسلم ألا يتواكل، ولكن يكون فهمه للقدر كما فهمه الرسول ( وصحابته.
فقد كان الرسول ( جالسًا ذات يوم، وفي يده عود ينْكُتُ به (يخُطُّ به على الأرض). فرفع رأسه فقال: (ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار). قالوا: يا رسول الله! فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: (لا. اعملوا، فكل ميسر لما خلق له). ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى. وكذب الحسنى. فسنيسره للعسرى} [الليل: 5-10] [مسلم].
فالرسول ( وضح لنا أن الله -عز وجل- علم منذ الأزل أعمال العباد في الدنيا، وكتب ذلك عنده وعلم مستقرهم، وعندما يشعر المسلم بهذا فإنه لا يدعو إلى التواكل بل يدعو إلى الجد في العمل، ولو لم يفهم الصحابة ذلك لما وجدناهم بهذا النشاط وهذه القدوة في الأخذ بالأسباب، فلم يتكاسلوا عن طاعة الله أبدًا.
ثمرات الإيمان بالقدر:
غرس الرسول ( عقيدة القدر في نفوس أصحابه، فعلموا أن ما أصابهم فهو بقدر الله ولم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم فهو بقدر الله ولم يكن ليصيبهم، فانطلقوا بنفوس مطمئنة يدعون إلى دين الله -عز وجل-، وهم يحملون في قلوبهم عقيدة القدر كما علمهم إياها الرسول ( في شخص ابن عباس -رضي الله عنهما- حين قال له: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [الترمذي].
والمسلم نفسه مطمئنة يعلم أن الله هو الرءوف الرحيم، الذي قدر له الخير أو الشر، فلا يجزع من مصيبة ولا يجحد بنعمة، فهو شاكر في السراء، صابر في الضراء، قال (: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له) [مسلم].
فالمسلم ينظر إلى المصيبة على أنها قدر من الله -تعالى- يجب عليه أن يقابلها بالصبر، فقد تكون وراءها حكمة عظيمة لا يعلمها إلا الله -عز وجل-، قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].
والمسلم يرجو أن تكون هذه المصيبة تخفيفًا له من عذاب يوم القيامة، كما قال ( حين سئل: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) [الترمذي].
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-: أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.
وما أجمل قول ابن القيم حين قال:
وإذا اعترتْكَ بليةٌ فاصبرْ لها
صــبرَ الكريمِ فإنَّه بكَ أكرمُ
وإذا شكوتَ إلى ابْنِ آدمَ إنما
تشكو الرَّحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
والمسلم بإيمانه بقضاء الله وقدره لا ينظر إلى ما فضل الله به بعض الناس على بعض؛ لأن هذا ملك الله -عز وجل-، فهو يعطي ويمنع بقدره سبحانه، قال تعالى: {قل الله مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير }
[آل عمران: 26].
والإيمان بالقدر يدفع المسلم إلى الأخذ بالأسباب، والعمل على اكتشاف ما في الكون، فإن أصابه الفشل لا ينزعج، وإن كان النجاح شكر الله على توفيقه.
قام فرعون من نومه فزعًا؛ لأنه قد رأى في منامه ذهاب ملكه على يد مولود يولد من بني إسرائيل، وفي نفس اللحظة، أصدر فرعون أوامره بقتل كل مولود ذكر. علمت أم موسى بالخبر، فضمت ابنها (موسى) بين أحضانها، ودموعها تنساب على خديها، ماذا تفعل والموت يحيط بوليدها؟ لكن الله -عز وجل- قد تكفل برعايته، فأوحى إليها أن تضعه في صندوق وتلقيه في ماء النيل، وأوحى إلى الماء أن يحمل موسى إلى قصر فرعون. وعندما رآه جنود فرعون أخذوه، فألقى الله محبته في قلب امرأة فرعون، فصاحت في الجنود: لا تقتلوه. ونفذ قضاء الله وقدره، وكان بيت فرعون هو النجاة لموسى من خطر فرعون، قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يـس: 82].
الإيمان بالقدر:
الناس في الخلق متفاوتون، هذا طويل، وهذا قصير، وهذا جميل، وهذا قبيح، وهذا قدر الله -عز وجل- في خلقه. والمسلم يؤمن بقضاء الله وقدره، فلا يحتقر نعمة أنعم الله بها عليه، ولا يتمنى ما عند الآخرين، بل يكون راضيًا بقضاء الله وقدره، لأن هذا ركن من أركان إسلامه الذي لا يتحقق إلا به.
قال رسول الله (: (حاج (جادل) موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال: قال آدم: يا موسى، أنت اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله على قبل أن يخلقني، أو قدَّره على قبل أن يخلقني؟) قال رسول الله (: (فحج آدم موسى) [البخاري].
والمسلم يعلم أن القدر حق، والإيمان به واجب، بل هو ركن مهم من أركان العقيدة، ولا يكتمل إيمان المرء إلا به، فقد جاء في جواب الرسول ( على جبريل حينما سأله عن الإيمان: (... وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره) [متفق عليه].
والمسلم يؤمن أن القدر هو ما قدره الله -عز وجل-، فالله -عز وجل- خلق الناس وهو يعلم ما يعملون، قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96]، والله -سبحانه- بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده ملكوت السموات والأرض. قال تعالى: {إن الأمر كله لله}
[آل عمران: 154]، وقال سبحانه: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 132].
والمسلم يعلم أن الإيمان بالقدر يربطه برب هذا الوجود وخالقه ومقدر أمره، فهذا الوجود يسير وفق حكمة عليا وإرادة مختارة، مما يعطي المسلم قوة باعثة على النشاط والعمل الإيجابي والتعامل مع هذا الكون بنفس راضية مطمئنة.
قال تعالى: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر: 19-21].
والمسلم يعلم أن إيمانه بقدر الله -تعالى- مستمد من إيمانه بصفات الله العلى، وأسمائه الحسنى، ومنها: العلم، والقدرة، والإرادة، فهو سبحانه: {بكل شيء عليم} [الحديد: 3] {وهو على كل شيء قدير} [الحديد: 2]، وهو سبحانه: {فعال لما يريد} [البروج: 16].
والمسلم يؤمن بقضاء الله -عز وجل-، وأنه إرادة الله -عز وجل- قضاها في الأزل (في القِدم)، بمعنى أن كل شيء يحدث الآن، إنما يقع ويحدث وفق إرادة الله -عز وجل- وقدره. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد: 22].
وقال: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [التوبة: 51].
والمسلم يؤمن أن وقوع الإرادة أو قضاء الله -عز وجل- وتحققها بالهيئة التي قضاها الله، هو قدر الله -عز وجل-، ونضرب على ذلك مثلا: الله سبحانه قضى أن البذرة إذا كانت صالحة، ووضعت في الأرض، ورويت بالماء، تنبت بإذن الله، فإذا وضعت في الأرض، ورويت بالماء، وأنبتت، فهذا قدر
الله -عز وجل- وكذلك قضى الله -عز وجل- أن النار تحرق ما يقع فيها، فهذا قضاء من الله -تعالى-، فإذا وقع فيها شيء واحترق، فهو قدر.
مراتب القدر:
والمسلم يؤمن أن للقدر مراتب هي:
* المرتبة الأولى:
مرتبة العلم والإرادة، فالمسلم يعلم أن الله بكل شيء عليم، فعلمه سبحانه أحاط بكل شيء، كل ما كان في الماضي، وكائن في الحاضر، أو ما سيكون في المستقبل، فعلم جميع أحوال العباد من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، يقول الله تعالى: {والله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12].
* المرتبة الثانية:
والمسلم يؤمن أن ما أراده الله وقدره وعلمه أزلا قد كتبه في اللوح المحفوظ؛ أي أن الله -عز وجل- علم ما يعمله العباد، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، قال تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} [الحج: 70]، والرسول ( يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) [مسلم والترمذي].
*المرتبة الثالثة:
هي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، فإذا قضى الله -عز وجل- اليسر لعبده، يسر له ذلك، قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى}
[الليل: 5-10].
فالمسلم يؤمن بمشيئة الله -عز وجل-، وكذا بمشيئة العبد، إلا أن مشيئة العبد مرتبطة بمشيئة الله، فالله -عز وجل- خلق العباد وأفعالهم، والعباد فاعلون حقيقة، ولهم القدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96].
والمسلم يعلم أن الله علم أعمال العباد بعلمه الأزلي، ثم كتب ذلك في كتاب عنده وهو اللوح المحفوظ لما شاء الله وأراد، ثم وقعت هذه الأفعال وفق قضاء الله وقدرته وخلقه وعلمه بهذه الأفعال.
حكمة القدر:
والمسلم لا يسأل عن الحكمة من القضاء والقدر، لأن ذلك من الأمور التي اختص الله بها نفسه، فهو سبحانه مالك هذا الكون وخالقه والمتصرف فيه، وله الحق -سبحانه- أن يفعل فيه ما يشاء، ولا يسأل سبحانه عن ذلك، قال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23].
والمسلم لا يعترض على قضاء الله وقدره، إن كان فقيرًا أو ضعيفًا؛ لأنه يعلم أن الفقر والغني والقوة والضعف إنما هي من قضاء الله، يختص الله بها من يشاء من عباده، والمسلم يعلم أن إيمانه بالقدر يجعله ينطلق في الأرض؛ ليتعرف على سنن الله وقوانينه، ويعمل على تعمير الأرض وبنائها، فيكون إيمانه بالقدر باعثًا له على النشاط والعمل، فإن كان النجاح فهو بقدر الله -عز وجل-، وإن فشل لا يجزع، بل يصبر ويعلم أنه قدر الله، قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 22-23].
والمسلم يعلم أن ما قدر له يكون، وما لم يقدر له لا يكون أبدًا، قال رسول الله (: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) [مسلم].
والمسلم يؤمن أن ما يحدث له يقع بالكيفية التي قدرها الله -عز وجل-، فأمره سبحانه بين الكاف والنون. قال تعالى: {إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47].
لذلك يوصي الرسول ( ابن عباس -رضي الله عنهما- فيقول: (.. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [الترمذي].
إرادة الله وإرادة البشر:
والمسلم يؤمن أن الله -عز وجل- قدَّر أمورًا كثيرة تحدث للخلق حسب إرادة الله ومشيئته، وأنها تحدث لهم طوعًا أو كرهًا، رضوا بها أم لم يرضوا، كمولد الإنسان، وساعة وفاته، وجنسه، وذكائه وطوله وقصره، وجماله وقبحه، وأبيه وأمه...، فهذه الأشياء لا دخل للإنسان في تقديرها، ولكنه يرضى بما اختاره الله سبحانه له، فقال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} [القصص: 68].
وكذلك المؤمن يصبر على قضاء الله وقدره، إن كان في مصيبة كالموت أو المرض؛ لأنه يعلم أن ذلك تخفيف عنه يوم القيامة وتطهير له من السيئات. قال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} [يونس: 107].
وكذا يؤمن بما يحدث في الكون من حوله، وأنه لا دخل لإرادة الإنسان فيه، فتكوين السحاب، ونزول المطر، وحدوث البرق والرعد... إلخ، هذا قدر لا دخل للإنسان فيه، فهذا النوع من القدر يجب على المسلم الإيمان والرضا به، لأنه يقع وفق إرادة الله ومشيئته. وهذا إبراهيم- عليه السلام- يؤمن بمشيئة الله الكونية، وكيف لا يؤمن بها وهو إمام الموحدين؟! فيلقي حجته قاطعة مبرهنة على صدقه أمام الملك الذي أنكر وجود الله، فقال إبراهيم: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} [البقرة: 258].
علم إبراهيم أنها إرادة الله وحده، وهذا الكافر ينكر وجود الله، فأمره
إبراهيم -عليه السلام- أن يأتي بالشمس من المغرب فماذا حدث؟ قال تعالى: {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
والمسلم يؤمن أن كل إنسان له إرادة، يفعل بها ما يشاء، ويترك ما يشاء، كالقيام والجلوس والكلام والأكل والشرب والحركة... ونحوها، فكل هذه الأعمال من المشيئة التي جعلها الله في الإنسان، وإن كانت تابعة لمشيئة الله -عز وجل-، لأن الله خالق الإنسان وخالق مشيئته وقدرته. قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 29].
المسلم يعلم أنه لا يفهم من ذلك أن الله أجبر العباد على أفعالهم، ثم يحاسبهم عليها بعد ذلك؛ لأن هذا لا يستقيم مع ما يؤمن المسلم به من عدل
الله -سبحانه وتعالى-، الذي لا يظلم الناس شيئًا، فمن المعروف أن
الله -عز وجل- خلق طريقين، طريق الهداية وطريق الضلالة، وشاء -سبحانه- أن يختار الإنسان أحد الطريقين، بعد أن بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر، قال تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وأمر الناس أن يسيروا في الطريق المستقيم، ووعدهم الثواب العظيم إن ساروا على نهج الله، وحذرهم من الكفر والضلال، وأوعدهم بالعقاب الشديد على ذلك.
والله -سبحانه- يحب لعباده أن يسلكوا سبيل الخير والإيمان، ولا يرضى لعباده الغواية والضلال، قال تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7].
والمسلم يعلم أن الله قد بين للإنسان طريق الهدى، وأرسل له الرسل، وأنزل معهم الكتب ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله -عز وجل- وطاعته، ويحذرهم من الانحراف عن طريق الله المستقيم، قال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. وقال سبحانه: {إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا} [الإنسان: 3].
ويحكي القرآن ما كان من قوم ثمود الذين استحبوا طريق الضلال على طريق الله المستقيم، فيقول: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}
[فصلت: 17]. فقد بين الله لهم الطريق المستقيم، ولكنهم لم يسلكوه واتبعوا الشيطان.
والمسلم يؤمن بأن الله -عز وجل- قدَّر الأرزاق والآجال أزلا، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. قال الله تعالى:{وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} [الذاريات: 22-23].
وقال (: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها)
[الحاكم وابن أبي الدنيا]. والمسلم يطمئن قلبه عندما يعلم ذلك، ويقول كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي.
والمسلم لا يتواكل (يتكاسل وينتظر الرزق)، لكنه يأخذ بالأسباب التي تأتي بالرزق، فهذا من قدر الله -عز وجل- ولو أنه أخذ بالأسباب وتوكل على الله، لرزقه الله رزقًا كثيرًا، قال (: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا) [الترمذي].
والمسلم يؤمن أن أجله ونهاية عمره بيد الله -عز وجل-، لا يستطيع أحد أن يؤخر أو يقدم في ذلك شيئًا، وأنه لن تموت نفس قبل أن تستوفي أجلها، يقول الله -تعالى-: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلاً}
[آل عمران: 145].
وقالت السيدة أم حبيبة زوج رسول الله (: (اللهم أمتعني بزوجي رسول الله (، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. (تقصد أن يطيل الله عمرها وأعمارهم حتى يتمتع كل بالآخر)، فقال رسول الله (: (قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حِلِّه، أو يؤخر شيئًا عن حِلِّه، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرًا وأفضل) [مسلم].
ترك التنازع في القدر:
والمسلم يؤمن أن القدر سر من أسرار الله -عز وجل-، فهو يؤمن بما ينجيه عند ملاقاة الله -عز وجل-، فهو يؤمن بأن الله عليم بكل شيء، منزه عن الظلم، فهو سبحانه عادل لا يظلم الناس شيئًا، وهو سبحانه منزه عن العبث، له حكمة في كل ما يفعل، وإن خفيت علينا هذه الحكمة، لذا فهو يؤمن بترك التنازع في القدر، بل يسلم بكل ما قدر له، ويتمثل حديث رسول الله (: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) [الطبراني].
ولقد حذرنا الرسول ( من التنازع والخوض في القدر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: خرج علينا رسول الله ( ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: (أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؟ عزمت عليكم أن لا تتنازعوا فيه) [الترمذي].
وفي رواية، فقال لهم: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم) [أحمد].
فالمسلم يترك التنازع في القدر، ويعلم أن كل شيء يحدث له إنما هو مقدر ومحسوب عند الله -تعالى-، كما قال (: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) [ابن ماجه].
المسلم لا يحتج بالقدر على فعل معصية، فقد أُتي بسارق إلى أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فسأله عمر: لم سرقت؟ فقال: قدر الله ذلك. فقال عمر -رضي الله عنه-: اضربوه ثلاثين سوطًا، ثم اقطعوا يده) فقيل له: ولِمَ؟ فقال: يقطع لسرقته، ويضرب لكذبه على الله.
فنجد أن هذا الرجل احتج بالقدر على معصية الله، فأمر أمير المؤمنين
عمر -رضي الله عنه- بجلده ثلاثين جلدة، بالإضافة إلى قطع يده تعذيرًا له، لأنه كذب على الله، فعلى الإنسان أن يؤمن أن كل شيء يحدث له أو منه إنما هو معلوم لله، ومسجل في كتاب القدر، ولابد أن يقع كما علمه الله تعالى وسجله في كتاب القدر من قبل، لكن الله لم يطلع الناس على كتاب القدر.
لذلك على الإنسان أن يتخذ قراراته بإرادة كاملة ومشيئة تامة بأن يفعل أو لا يفعل، وهو مسئول عن ذلك مسئولية كاملة، ولا يصح له أن يحتج بالقدر وإن احتج به يكون كاذبًا؛ لأنه حين اتخذ قراره بأن يفعل كذا أو أن يمتنع عن فعل كذا، لم يكن يعرف شيئًا عن قدر الله؛ لأنه لم يطلع على كتاب القدر، ومن هنا لا يصح لأحد أن يحتج بالقدر، والذي يحتج به يكون كاذبًا، ويستحق الجلد الذي أمر به عمر -رضي الله عنه-.
والمسلم لا يسلك ذلك المسلك ولا يحتج بالقدر على معصية الله؛ لأنه يعلم أن ذلك هو مسلك الكافرين في تبرير شركهم بالله، قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} [الأنعام: 148]. وقال: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} [الزخرف: 20].
دفع القدر بالقدر:
انتشر الطاعون في أرض الشام، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيها، فأراد أن يرجع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، أفر من قدر الله إلى قدر الله. فالطاعون مرض، والمرض قدر من أقدار الله -عز وجل-، فالفرار منه إلى الأرض الصحيحة التي ليس بها مرض هو فرار إلى قدر الله أيضًا، ثم يضرب عمر بن الخطاب لأبي عبيدة -رضي الله عنهما- مثلا بالأرض الخصبة، وأنه إذا كان يرعى في أرض جدباء لا كلأ فيها ولا خضرة، ثم انتقل إلى أرض خصبة مليئة بالعشب، فإنه ينتقل من قدر إلى قدر.
والمسلم يؤمن أن القدر يدفع بالقدر، فالمرض قدر من أقدار الله -عز وجل- لا يدفعه إلا قدر التداوي، ولما سئل النبي (: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال (: (هي من قدر الله) [ابن ماجه وأحمد].
والرسول ( يقول أيضًا: (تداووا عباد الله، فإن الله -تعالى- لم يضع داءً إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم (الشيخوخة)) [أحمد].
فإذا قعد الإنسان عن مدافعة الأقدار، مع القدرة على ذلك كان آثمًا، فإذا لم يدفع قدر الجوع مثلا بقدر الأكل، هلك ومات عاصيا لله.
إنما الأعمال بالخواتيم:
والمسلم يؤمن أن الأعمال بخواتيمها، فإن كان آخر عمل الإنسان خيرًا فإن هذا يبشر بالخير والثواب، ومن كان آخر عمله شرًا أخذ به، قال (: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه القول، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) [البخاري].
فالمسلم عليه أن يسارع إلى الخيرات، لأن الأجل غير معلوم، وهو يبذل ما في وسعه، ويترك النتائج على الله -عز وجل-، والله -عز وجل- لا يكلف الإنسان إلا بما يقدر عليه، ولا يجبره على فعل ما لا يستطيع.
والمسلم يعلم أن من لطف الله ورحمته بعباده، أنهم لو أساءوا طوال حياتهم، ثم تابوا إلى الله -عز وجل-، وعملوا بعمل أهل الجنة، فإنهم يعاملون بذلك، فعلى المسلم أن يستعين بالله على فعل الخير، وأن يدعو الله -عز وجل- أن يحسن خاتمته، فإن القدر لا يرده إلا الدعاء، قال (: (لا يرد القدر إلا الدعاء) [الترمذي والحاكم].
القدر والتواكل:
والمسلم لا يتخذ القدر حجة للتواكل، ومبررًا للمعاصي، وطريقًا إلى القول بالجبر، ولكنه يتخذ القدر سبيلا إلى تحقيق الأهداف السامية والغايات النبيلة، فينطلق إلى البناء والتعمير، واستخراج كنوز الأرض، والانتفاع بخيراتها التي أودعها الله في جوفها، وبذلك يربطه الإيمان بالقدر برب هذا الوجود وخالقه، وعلى المسلم ألا يتواكل، ولكن يكون فهمه للقدر كما فهمه الرسول ( وصحابته.
فقد كان الرسول ( جالسًا ذات يوم، وفي يده عود ينْكُتُ به (يخُطُّ به على الأرض). فرفع رأسه فقال: (ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار). قالوا: يا رسول الله! فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: (لا. اعملوا، فكل ميسر لما خلق له). ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى. وكذب الحسنى. فسنيسره للعسرى} [الليل: 5-10] [مسلم].
فالرسول ( وضح لنا أن الله -عز وجل- علم منذ الأزل أعمال العباد في الدنيا، وكتب ذلك عنده وعلم مستقرهم، وعندما يشعر المسلم بهذا فإنه لا يدعو إلى التواكل بل يدعو إلى الجد في العمل، ولو لم يفهم الصحابة ذلك لما وجدناهم بهذا النشاط وهذه القدوة في الأخذ بالأسباب، فلم يتكاسلوا عن طاعة الله أبدًا.
ثمرات الإيمان بالقدر:
غرس الرسول ( عقيدة القدر في نفوس أصحابه، فعلموا أن ما أصابهم فهو بقدر الله ولم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم فهو بقدر الله ولم يكن ليصيبهم، فانطلقوا بنفوس مطمئنة يدعون إلى دين الله -عز وجل-، وهم يحملون في قلوبهم عقيدة القدر كما علمهم إياها الرسول ( في شخص ابن عباس -رضي الله عنهما- حين قال له: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [الترمذي].
والمسلم نفسه مطمئنة يعلم أن الله هو الرءوف الرحيم، الذي قدر له الخير أو الشر، فلا يجزع من مصيبة ولا يجحد بنعمة، فهو شاكر في السراء، صابر في الضراء، قال (: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له) [مسلم].
فالمسلم ينظر إلى المصيبة على أنها قدر من الله -تعالى- يجب عليه أن يقابلها بالصبر، فقد تكون وراءها حكمة عظيمة لا يعلمها إلا الله -عز وجل-، قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].
والمسلم يرجو أن تكون هذه المصيبة تخفيفًا له من عذاب يوم القيامة، كما قال ( حين سئل: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) [الترمذي].
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-: أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.
وما أجمل قول ابن القيم حين قال:
وإذا اعترتْكَ بليةٌ فاصبرْ لها
صــبرَ الكريمِ فإنَّه بكَ أكرمُ
وإذا شكوتَ إلى ابْنِ آدمَ إنما
تشكو الرَّحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
والمسلم بإيمانه بقضاء الله وقدره لا ينظر إلى ما فضل الله به بعض الناس على بعض؛ لأن هذا ملك الله -عز وجل-، فهو يعطي ويمنع بقدره سبحانه، قال تعالى: {قل الله مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير }
[آل عمران: 26].
والإيمان بالقدر يدفع المسلم إلى الأخذ بالأسباب، والعمل على اكتشاف ما في الكون، فإن أصابه الفشل لا ينزعج، وإن كان النجاح شكر الله على توفيقه.
ننوسة- مشرفه
- عدد المساهمات : 1537
نقاط : 4835
السٌّمعَة : 9
تاريخ التسجيل : 06/08/2010
العمر : 33
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى